ملخص المقال
موت الفجأة نهاية مروعة، وميتة داهمة باغتة، تلك النهاية التي لا تفرق بين صغير وكبير، ولا ذكر وأنثى، ولا صحيح ومريض.. فماذا أعددت للموت؟ وماذا قدمت لنفسك؟
كم يسعى الإنسان في دنياه ويجهد نفسه، فيبذل ويكدح، يخطط ويدبر، ويرسم ويقدر، قد ملأ قلبه أملاً في العيش، ومنَّى نفسه بما تلذذ من متع الحياة، تراه يرصد حساباته، ويدقق في تجاراته، يعرق ليجمع، ويجمع ليعطي أو يمنع، أهمّه شأن الأولاد، وأقلقه تأمين المستقبل، انشغل لبُّه وقلبه بمشروع ومشروعات، آماله كثيرة، وأمانيه متلونة...
مركب ومسكن، وظيفة وجاه، سفر وسياحة، إذا انتهى من أمل لاح في خياله أمل آخر، فتراه في يومه وشهره وسنته يتنقل من أمل إلى أمل، وفي لحظة غير محسوبة وساعة غير منتظرة، وبينما هو في صحة وقوة واستقرار وفتوّة هنا وبلا مقدمات ولا سابق إنذار، تنزل به لحظة غريبة ومفاجأة رهيبة.. نزل به نازل الموت {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19].
يا الله! لا مرض يشتكي ولا علة تكدّر، ولا هرم يفسد، هنا رأى عين اليقين: ملك الموت الذي طالما كره سماعه، رآه ورأى معه ملائكة أخرى يطلبون وديعة الله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
لا تسل حينها عن الحسرات، وتمنّي الرجوع للدنيا لعمل الصالحات الباقيات، ولكن لا رجوع، ولا توبة ولا عمل ولا قربة، وتبدأ بعدها عملية نزع الروح بكربها ومرّها وغصصها، فلا إله إلا الله «إن للموت لسكرات» قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
في ذلك الحين يعرق الجبين، ويظهر الأنين، ويشتد الحنين.. في ذلك الحين يتغير اللون، وييبس اللسان، وتتشنج الأصابع، ويقف شعر الجلد، ويتحشرج الصدر، ويشخص البصر..
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يومًا فضاق بها الصدر
في ذلك الحين يتوقف كل شيء، فلا قلب ولا عِرق ينبض، ولا عقل يدبر، سكن الجسد المُسجَّى فلا حسّ بعدها ولا خبر {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29، 30].
جاء أجلك أيها الإنسان، فأغمضوك وغسّلوك، وكفنوك وحنطوك، وللصلاة قدموك، وعلى الأكتاف حملوك، ثم في قاع اللحد دفنوك..
جاء أجلك أيها الإنسان، فبُكي عليك وتُرحم عليك، قُسّمت أموالك، وسُكنت دارك، ونُسيت أطلالك، ومُحيت آثارك، وبقيت أنت بعدها مجندلاً في قبرك مع أمانيك، مرتهنًا بعملك في ماضيك، ليس لك إلا ما سعيت {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 39-41].
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة» (رواه الطبراني وغيره وحسنه الألباني).
موت الفجأة نهاية مروعة، وميتة داهمة باغتة، تلك النهاية التي لا تفرق بين صغير وكبير، ولا ذكر وأنثى، ولا صحيح ومريض..
تلك النهاية التي استعاذ من مثلها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من أربع: اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، وأعوذ بك من الغرق، والحرق» (رواه أبو داود).
والجامع بين هذه الأربع مع شدتها أنها تأتي فجأة..
قلِّب نظرك -أخي الكريم- في وَفَيات عالم اليوم ترى مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وفيات مفاجئة، وفيات مباغتة، سكتات قلبية، وجلطات دماغية، وذبحات صدرية، وحوادث مروعة، وأمراض مجهزة..
ترى الرجل الشديد لا يشكو بأسًا ولا يئن وجعًا، يخرج من داره فلا يرجع إلا إلى دار أخرى..
ترى الرجل الصحيح السليم يفرح بجديد ثيابه، فيُلَفّ بأكفانه قبل أن يهنأ بلبس الجديد..
ترى الرجل المعافى ينام ملء الجفون، فما يستيقظ إلا على نداء ملك الموت يدعوه للرحيل..
يا نائم بالليل مسرورًا بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا
جنائز وجنائز أصحابها من الشباب الأصحاء، وليسوا من الشيوخ ولا من السقماء.. الموت في كل حين ينشر الكفن، ونحن في غفلة عما يُرَاد بنا، سهو وشرود وإعراض وصدود {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6].
إن انتشار ظاهرة موت الفجأة يدعو كل مَن كان له قلب وغفل أن يقف مع نفسه وقفة حساب ومحاسبة، ماذا قدَّم لنفسه من صالح الأعمال في سالف الأيام؟ ماذا عن الفتور في العبادات والتقصير في السنن؟
يا ليتنا ثم يا ليتنا نعاتب أنفسنا على ما فرطنا في جنب الله، فكم من محرمات هتكناها! وفرائض ضيعناها! وكبائر تهاونا بها!
أمَا شعرنا واستشعرنا أن الأفعال مكتوبة والأقوال محسوبة {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
يا ليتنا ثم يا ليتنا نتذكر ما بعد الموت من أهوال، أهوال بعدها أهوال..!
نتذكر القبر المحفور، والنفخ في الصور، نتذكر البعث والنشور والسماء يوم تمور..
نتذكر الصراط حين يُمَد للعبور، فهذا ناجٍ، وهذا مكدس مأسور.
وقف خير البشر وسيِّد البشر صلى الله عليه وسلم على قبر وجثا واستعبر وبكى، ثم التفت إلى أصحابه وقال: «يا إخواني لمثل هذا فأعدوا».
وفي آخر الليل ونهاية السحر تنزل المنية بالصحابي العالم البحر معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقال لابنه: "انظر هل طلع الفجر؟" فقال: لا. ثم قال له بعدها: "انظر هل طلع الفجر؟" قال: نعم. فقال معاذ: "اللهم إني أعوذ بك من ليلة صباحها إلى النار".
وحضرت الوفاة معاوية -رضي الله عنه- فجعل يسبّح ويذكر الله كثيرًا، ثم أمسك بلحيته وبكى وقال: "اللهم ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجُدْ بحلمك على من لا يرجو غيرك ولا يثق بأحد سواك".
مرض أبو هريرة -رضي الله عنه- يومًا فبكى، فسُئل عن ذلك، فقال: "إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بُعد سفري، وقلة زادي، وإني أصبحت في صعودٍ مهبط على جنة ونار، ولا أدري أيهما يؤخذ بي".
دخل أبو العتاهية الواعظ الزاهد على هارون الرشيد في قصره الجديد وقد أعجبه ملكه وجاهه، فأنشده أبو العتاهية:
عش ما بدا لك سالمـا *** في ظل شاهقة القصـور
فقال الرشيد وقد ارتاح وهشّ وبشّ: هيه؛ يعني زد..
فقال:
يُسعى عليك بما اشتهيت *** لدى الـرواح أو البكـور
قال: هيه..
قال:
فإذا النفوس تغرغرت *** بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلـم موقنًا *** ما كنت إلا في غـرور
فتأثر الرشيد مما سمع وبكى، حتى إذا مضت أيامه وحانت وفاته جعل يقول: "اللهم يا من لا يزول ملكه، ارحم اليوم من قد زال ملكه".
يا من يعاني قسوة قلبه وغفلة نفسه، عُدِ المرضى، وزُر مغاسل الموتى، اتّبع الجنائز، وامش بين المقابر.
أتيت القبور فناديتهـا *** أين المعظـم والمحتقـر
وأين المدلّ بسلطانـه *** وأين القوي على ما قدر
تفانوا جميعًا فما مخبـر *** وماتوا جميعًا ومات الخبر
أخي الكريم، ها أنت في زمن الإمهال وزمن الأعمال، ها أنت في كامل صحتك وقدراتك العقلية، رحيلك يقين، وسفرك قريب، فأعدّ لهذه الرحلة الطويلة عُدَّتها وزادها قبل أن تدرك الصرعة، فتتمنى حينها الرجعة ولكن... {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
المصدر: موقع ملتقى الخطباء.
التعليقات
إرسال تعليقك